كان من آثار التهجير الجماعي للمسلمين من الأندلس ونزوح أعداد كبيرة منهم إلى الشمال الأفريقي حدوث العديد من المشكلات الاجتماعية والاقتصادية في ولايات الشمال الأفريقي.
ولما كان من بين المسلمين النازحين إلى هذه المناطق أعداد وفيرة من البحارة ، فكان من الضروري أن تبحث عن الوسائل الملائمة لاستقرارها ، إلا أن بعض العوامل قد توافرت لتدفع بأعداد من هؤلاء البحارة إلى طريق الجهاد ضد القوى المسيحية في البحر المتوسط ، ويأتي في مقدمة هذه الأسباب الدافع الديني بسبب الصراع بين الإسلام والنصرانية وإخراج المسلمين من الأندلس ومتابعة الأسبان والبرتغال للمسلمين في الشمال والأفريقي.
وقد ظلت حركات الجهاد الإسلامي ضد الأسبان والبرتغاليين غير منظمة حتى ظهور الأخوان خير الدين وعروج بربروسا واستطاعا تجميع القوات الإسلامية في الجزائر وتوجيها نحو الهدف المشترك لصد أعداء الإسلام عن التوسع في موانئ ومدن الشمال الأفريقي.
وقد اعتمدت هذه القوة الإسلامية الجديدة في جهادها أسلوب الكر والفر في البحر بسبب عدم قدرتها في الدخول في حرب نظامية ضد القوى المسيحية من الأسبان والبرتغاليين وفرسان القديس يوحنا ، وقد حقق هؤلاء المجاهدين نجاحاً أثار قلق القوى المعادية ، ثم رأوا بنظرهم الثاقب أن يدخلوا تحت سيادة الدولة العثمانية لتوحيد جهود المسلمين ضد النصارى الحاقدين.
وقد حاول المؤرخون الأوروبيون التشكيك في طبيعة الحركة الجهادية في البحر المتوسط ووصفوا دورها بالقرصنة وكذلك شككوا في أصل أهم قادتها وهما خير الدين وأخوه عروج الأمر الذي يفرض ضرورة إلقاء الضوء على دور الأخوين وأصلهما ، وأثر هذه الحركة على الدور الصليبي في البحر المتوسط في زمن السلطان سليم والسلطان سليمان القانوني.
أولاً : أصل الأخوين عروج وخير الدين :
يرجع أصل المجاهدين إلى الأتراك المسلمين وكان والدهما يعقوب بن يوسف من بقايا الفاتحين المسلمين الأتراك الذين استقروا في جزيرة مدللي إحدى جزر الأرخبيل. وأمهم سيدة مسلمة أندلسية كان لها الأثر على أولادها في تحويل نشاطهم شطر بلاد الأندلس التي كانت تئن في ذلك الوقت من بطش الأسبان والبرتغاليين. وكان لعروج وخير الدين أخوان مجاهدان هما إسحاق ومحمد إلياس.
إن ما ذكر عن الدور الذي لعبه الأخوان يؤكد حرصهما على الجهاد في سبيل الله ومقاومة أطماع أسبانيا والبرتغال في الممالك الإسلامية في شمالي أفريقيا ولقد أبدع الأخوان في الجهاد البحري ضد النصارى وأصبح لحركة الجهاد البحري في القرن السادس عشر مراكز مهمة في شرشال ووهران والجزائر ودلي وبجاية وغيرها في أعقاب طرد المسلمين من الأندلس ، وقد قويت بفعل انضمام المسلمين الفارين من الأندلس والعارفين بالملاحة وفنونها والمدربين على صناعة السفن.
ثانياً : دور الأخوين في الجهاد ضد الغزو النصراني :
تجه الأخوان عروج وخير الدين إلى الجهاد البحري منذ الصغر ، ووجها نشاطهما في البداية إلى بحر الأرخبيل المحيط بمسقط رأسهما حوالي سنة 1510م ، لكن ضراوة الصراع بين القوى المسيحية في بلاد الأندلس وفي شمالي أفريقيا بين المسلمين هناك ، والذي اشتد ضراوة في مطلع القرن السادس عشر ، قد استقطب الأخوين لينقلا نشاطهما إلى هذه المناطق وبخاصة بعد أن تمكن الأسبان والبرتغاليون من الاستيلاء على العديد من المراكز والموانئ البحرية في شمالي أفريقيا.
وقد حقق الأخوان العديد من الانتصارات على القراصنة المسيحيين الأمر الذي أثار إعجاب القوى الإسلامية الضعيفة في هذه المناطق ، ويبدو ذلك من خلال منح السلطان "الحفصي" لهم حق الاستقرار في جزيرة جربة التونسية وهو أمر عرضه لهجوم أسباني متواصل اضطره لقبول الحماية الأسبانية بالضغط والقوة ، كما يبدو من خلال استنجاد أهالي هذه البلاد بهما ، وتأثيرهم داخل بلدهم مما أسهم في وجود قاعدة شعبية لهما تمكنهما من حكم الجزائر وبعض المناطق المجاورة. ويرى بعض المؤرخين أن دخول "عروج" وأخيه الجزائر وحكمهما لها لم يكن بناءً على رغبة السكان ، ويستند هؤلاء إلى وجود بعض القوى التي ظلت تترقب الفرص لطرد الأخوين والأتراك والمؤيدين لهما ، لكن البعض الآخر يرون أن وصول "عروج" وأخيه كان بناءاً على استدعاء من سكانها لنجدتهم من الهجوم الأسباني الشرس ، وأن القوى البسيطة التي قاومت وجودهما كانت تتمثل في بعض الحكام الذين أبعدوا عن الحكم أمام محاولات الأخوين الجادة في توحيد البلاد حيث كانت قبل وصولهما أشبه بدولة ملوك الطوائف في الأندلس ، وقد سائد أغلب أهل البلاد محاولات الأخوين واشتركت أعداد كبيرة منهم في هذه الحملات ، كما ساندهما العديد من الحكام المحليين الذين شعروا بخطورة الغزو الصليبي الأسباني.
ويظهر دور الأخوين المجاهدين بمحاولة تحرير بجاية من الحكم الأسباني سنة 1512م، وقد نقلا – لهذا الغرض – قاعدة عملياتها ضد القوات الأسبانية في ميناء جيجل شرقي الجزائر بعد أن تمكنا من دخولها وقتل حماتها الجنوبيين سنة 1514م لكي تكون محطة تقوية لتحرير بجاية من جهة ولمحاولة مساعدة مسلمي الأندلس من جهة أخرى ، ويبدو أن الأخوين قد واجها تحالفاً قوياً نتج عنه العديد من المعارك النظامية وهو أمر لم يتعودوه لكن أجبروا عليه بفعل الاستقرار في حكم الجزائر ، وزاد من حرج الموقف قتل "عروج" في إحدى المعارك سنة 1518م مما اضطر خير الدين للبحث عن تحالف يعينه على الاستقرار والمقاومة سواء لدورها البارز في ساحة البحر المتوسط أم لأن القوى المحلية في الشمال الأفريقي كانت متعاطفة معها.
وتتابع انتصاراتها على الساحة الأوروبية منذ فتح القسطنطينية وأن الاتجاه لمخالفتها سيسكب دور خير الدين مزيداً من التأييد من قبل هذه القوى ، وإلى جانب ذلك فإن الدولة العثمانية قد أبدت استجابة للمساعدة حين طلب منها الأخوان ذلك ، كما أبدت رغبتها في مزيد من المساعدات لدوره وكذلك لبقايا المسلمين في الأندلس ، ومن منظور ديني أسهم في إكساب دورها تأييداً جماهيرياً وجعل محاولة التقرب منهما أو التحالف معهما عملاً مرغوباً.
ومن جهة أخرى كانت الظروف في الدولة العثمانية على عهد السلطان سليم الأول مهيأة لقبول هذا التحالف وبخاصة بعد أن اتجهت القوات العثمانية إلى الشرق العربي ، وكان من أبرز أهدافها في هذا الاتجاه هو التصدي لدور البرتغاليين والأسبان وفرسان القديس يوحنا في المنطقة ، وكان من المنطقي التحالف مع أي من القوى المحلية التي تعينها على تحقيق هذه الأهداف.
ثالثاً : التحالف مع العثمانيين :
اختلف علماء التاريخ حول بداية التحالف بين العثمانيين والأخوين عروج وخير الدين ، فتذكر بعض المراجع أن السلطان سليم الأول كان وراء إرسالهم إلى الساحل الأفريقي تلبية لطلب المساعدة من سكان الشمال الأفريقي وعملاً على تعطيل أهداف البرتغاليين والأسبان في منطقة البحر المتوسط. وعلى الرغم من عدم تداول هذه الرواية بين المؤرخين إلا أنها توضح أن العثمانيين لم يكونوا بمعزل عن الأحداث التي تدور على مساحة البحر المتوسط.
ويرجع بعض المؤرخين التحالف بين الجانبين إلى سنة 1514م في أعقاب فتح عروج وخير لميناء "جيجل" حيث أرسل الأخوان إلى السلطان سليم الأول مجموعة من النفائس التي استوليا عليها بعد فتح المدينة ، فقبلها السلطان ورد لهما الهدية بإرسال أربع عشر سفينة حربية مجهزة بالعتاد والجنود ، وكان هذا الرد من السلطان العثماني يعكس رغبته في استمرار نشاط دور الأخوين ودعمه. على أن بعض المؤرخين يذكرون أن الدعم العثماني لهذه الحركة كان في أعقاب وفاة "عروج" سنة 1518م وبعد عودة السلطان العثماني من مصر إلى استانبول سنة 1519م.
على أن الرأي الأكثر ترجيحاً أن الاتصالات بين العثمانيين وهذه الحركة كان سابقاً لوفاة عروج وقبل فتح العثمانيين للشام ومصر ، وذلك يرجع إلى أن الأخوين كانا في أمس الحاجة لدعم أو تحالف مع العثمانيين بعد فشلهما في فتح (بجاية) ، كما أنهما حوصروا في "جيجيل" بين الحفصيين الذين أصبحوا من أتباع الأسبان وبين (سالم التومي) حاكم الجزائر الذي ارتكز حكمه على دعم الأسبان له هو الآخر ، فضلاً عن قوة الأسبان وفرسان القديس يوحنا التي تحاصرهما في البحر ، فكان لوصول الدعم العثماني أثره على دعم دورهما وشروعهما في دخول الجزائر برغم هذه العوامل حيث اتفق العثمانيون مع الأخوين على ضرورة الإسراع بدخولهما قبل القوات الأسبانية لموقعها الممتاز من ناحية ولكي يسبقوا الأسبان إليها ، لاتخاذها قاعدة لتخريب الموانئ الإسلامية الواقعة تحت الاحتلال الأسباني كبجاية وغيرها من ناحية أخرى.
وقد تمكن عروج من دخول الجزائر بفضل هذا الدعم وقتل حاكمها بعد أن تأكد من مساعيه للاستعانة بالقوات الأسبانية ، كما تمكن من دخول ميناء شرشال ، واجتمع له الأمر في الجزائر وبويع في نفس السنة التي هزمت فيها القوات المملوكية أمام القوات العثمانية في الشام سنة 1516م في موقعة مرج دابق.
ولم يكن من الممكن للأخوين أن يقوما بهذه الفتوحات لولا تشجيع السلطان العثماني ودعمه إلى جانب دعم شعوب المنطقة وقد سبق أن فشلا في دخول بجاية أمام نفس القوات المعادية.
بعد أن بويع "خير الدين" في الجزائر في أعقاب ما حققه من انتصارات على الأسبان والزعماء المحليين المتحالفين معهم أصبح محط آمال كثير من الولايات والموانئ التي كانت ما زالت خاضعة سواء للأسبان أو لعملائهم ، وكان أول الذين طلبوا نصرته أهل تلمسان. ومع أن استنجاد الأهالي كان من الممكن أن يكون كافياً لتدخل "خير الدين" إلا أن موقع تلمسان الاستراتيجي الذين كان يجعل وجود "خير الدين" في الجزائر غير مستتب قد جعله يفكر في التدخل قبل أن يطلب الأهالي نجدته ، وأن مطالبهم قد دعته للتعجيل بذلك.
وأعد "خير الدين" جيشاً كبيراً زحف به إلى تلمسان سنة 1517م ، وأمن الطريق إليها ، وبعد أن نجح في السيطرة عليها تمكن الأسبان ، وعملاؤهم من بني حمود ، من استعادتها ولقي أحد إخوة (خير الدين) حتفه وهو "إسحاق" ، كما قتل "عروج" وكثيرون من رجاله أثناء حصارهم للمدينة ذلك الحصار الذي امتد لستة أشهر أو يزيد ، امتد حتى سنة 1518م.
وقد تركت هذه الأحداث أثراً بالغاً في نفس خير الدين مما دفعه إلى التفكير في ترك الجزائر لولا أن أهلها ألحوا عليه بالبقاء. وكانت موافقته على البقاء تفرض عليه ضرورة بذل المزيد من الجهد خشية أن يهاجمه الأسبان ومؤيدوهم ، كما أن ذلك قد أدى إلى اتجاهه إلى مزيد من الارتباط بالدولة العثمانية ، وبخاصة بعد أن والت لها مصر والشام ، فكان ذلك يؤكد احتياج الجانين إلى مزيد من الارتباط بالأخر.
رابعاً : سكان مدينة الجزائر يرسلون رسالة استغاثة للسلطان سليم الأول :
قام الأستاذ الدكتور عبدالجليل التميمي بترجمة وثيقة تركية محفوظة في دار المحفوظات التاريخية باستنبول – طوب قابي سيراى – تحت رقم 4656 ، وهذه الوثيقة عبارة عن رسالة موجهة من سكان بلدة الجزائر على اختلاف مستوياتهم ومؤرخة في أوائل شهر ذي القعدة عام 925م ، في الفترة من 26 من شهر أكتوبر (تشرين الأول) إلى 3 من شهر نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1519م ، وكتب بأمر من خير الدين إلى السلطان سليم بعد عودته من مصر والشام إلى استانبول ، وكان الغرض تلك الرسالة ربط الجزائر بالدولة العثمانية ، وجاء في الرسالة أن خير الدين كان شديد الرغبة في أن يذهب بنفسه إلى استانبول ليعرض على السلطان سليم الأول شخصياً إبعاد قضية الجزائر ، ولكن زعماء مدينة الجزائر توسلوا إليه أن يبقى فيها كي يستطيع مواجهة الأعداء إذا تحركوا ، وطلبوا منه أن يرسل سفارة تقوم بالنيابة عنه ، وكانت الرسالة التي حملتها البعثة موجهة باسم القضاة والخطباء والفقهاء والأئمة والتجار والأعيان وكافة سكان مدينة الجزائر العامرة ، وهي تفيض بالولاء العميق للدولة العثمانية وكان الذي يتزعم السفارة (الفقيه العالم الأستاذ أبو العباس احمد بن قاضي) ، وكان من أكبر علماء الجزائر ، كما كان قائداً عسكرياً وزعيماً سياسياً وكان بمقدوره أن يصور أوضاع بلاده والأخطار التي تحيط بها من كل جانب.
لقد أشاد الوفد بجهاد بابا عروج في مدافعة الكفار وكيف كان ناصراً للدين وحامياً للمسلمين وتكلموا عن جهاده حتى وقع شهيداً في حصار الأسبانيين لمدينة تلمسان وكيف خلفه أخوه المجاهد في سبيل الله أبو التقى خير الدين. وكان له خير خلف فقد دافع عنا ، ولم نعرف منه إلا العدل والإنصاف واتباع الشرع النبوي الشريف ، وهو ينظر إلى مقامكم العالي بالتعظيم والإجلال ، ويكرس نفسه وماله للجهاد لرضاء رب العباد وإعلاء كلمة الله ومناط آماله سلطنتكم العالية مظهراً إجلالها وتعظيمها، على أن محبتنا له خالصة ونحن معه ثابتون ونحن وأميرنا خدام أعتابكم العالية. وأهالي إقليم بجاية والغرب والشرق في خدمة مقامكم العالي ، وإن المذكور حامل الرسالة المكتوبة سوف يعرض على جلالتكم ما يجري في هذه البلاد من الحوادث والسلام.
إن الرسالة السابقة تبين للباحث آراء الجزائريين تجاه الدولة العثمانية وكان من تلك الآراء :
- أن خير الدين يمثل الحاكم المسلم الأمثل في شمال افريقية ، فهو يحترم وينفذ مبادئ الشريعة الإسلامية ويتخذ من العدل شرعة ومنهاجاً له في الحكم.
- أن نشاطه يتركز في قيادة عمليات الجهاد ضد النصارى.
- أنه يكن للدول العثمانية وسلطانها كل تقدير واحترام.
- تدل الرسالة على تماسك الجبهة الداخلية ووضوح الهدف أمام مسلمي الجزائر.
خامساً : استجابة السلطان سليم الأول لأهل الجزائر :
سارع السلطان سليم إلى منح رتبة بكلر بك إلى خير الدين بربروس وأصبح القائد الأعلى للقوات المسلحة في إقليمه ممثلاً للسلطان وبذلك أصبحت الجزائر تحت حكم الدولة العثمانية وأصبح أي اعتداء خارجي على أراضيها يعتبر اعتداء على الدولة العثمانية ، ودعم السلطان سليم هذا بقرارات تنفيذية ، إذ أرسل إلى الجزائر قوة من سلاح المدفعية ، وألفين من الجنود الانكشارية ، ومنذ ذلك الوقت (1519م) بدأ الانكشاريون يظهرون في الحياة السياسية والعسكرية في الأقاليم العثمانية في شمال إفريقيا وأصبحوا عنصراً بارزاً ومؤثراً في سير الأحداث بعد أن كثر إرسالهم تلك الأقاليم ، وأذن السلطان سليم لمن يشاء من رعاياه المسلمين في السفر إلى الجزائر والانخراط في صفوف المجاهدين ، وقرر منح المتطوعين الذين يذهبون إلى الجزائر الامتيازات المقررة للفيالق الإنكشارية تشجيعاً لهم على الانضمام إلى كتائب المجاهدين ، ولقد هاجر سكان الأناضول إلى الجزائر شوقاً إلى عمليات الجهاد ضد النصارى . ولقد ترتب على القرارات التي أصدرها السلطان سليم الأول عدة نتائج هامة كان من بينها :
1- دخول الجزائر رسمياً تحت السيادة العثمانية اعتباراً من عام 1519م ودعي للسلطان سليم علي المنابر في المساجد وضربت العملة باسمه.
2- إن إرسال القوات العثمانية جاء نتيجة استغاثة أهل بلدة الجزائر بالدولة العثمانية واستجابة لرغبتهم فلم يكن دخول القوات العثمانية غزواً أو فتحاً عسكرياً ضد رغبة أهل البلد.
3- إن إقليم الجزائر كان أول إقليم من أقاليم شمال أفريقيا يدخل تحت السيادة العثمانية ، وأصبحت الجزائر ركيزة لحركة جهاد الدول العثمانية في البحر المتوسط وكانت حريصة على امتداد نفوذها بعد ذلك إلى أقاليم الشمال الأفريقي لتوحيده تحت راية الإسلام والعمل على تخليص مسلمي الأندلس من الأعمال الوحشية التي كان يقوم بها الأسبان النصارى.
لقد كان زمن السلطان سليم البداية المتواضعة لمد النفوذ العثماني إلى أقاليم شمال أفريقية من أجل حماية الإسلام المسلمين وواصل ابنه سليمان ذلك المشروع الجهادي.
لقد استجاب السلطان العثماني سليم لنداء الجهاد من أخوة الدين ، وشرعت الدولة العثمانية في إنشاء أسطول ثابت لهم في شواطئ شمال أفريقيا والذي ارتبط منذ البداية باسم الأخوين عروج وخير الدين بربروسة.
سادساً : التحديات التي أمام خير الدين :
إن أمام خير الدين بربروس في وضعه السياسي والعسكري الجديد أن يحارب على جبهتين :
1- الجبهة الأسبانية لطرد الأسبانيين من الجيوب التي أقاموها فضم إليه عنابة وقالة في شرقي الجزائر وحقق انتصاراً باهراً على الأسبانيين حين استولى عام 1529م على حصن بينون الأسباني على الجزيرة المواجهة لبلدة الجزائر ، وقد كان قد استمر يقصف الحصن بقذائف مدافعة طوال عشرين يوماً حتى تداعت جوانبه ، ثم اقتحم الحصن مع قوات كثيفة العدد كانت تحملها خمس وأربعون سفينة جاءت من الساحل وأسر قائد الحصن مع كبار ضباطه.
إن استيلاء خير الدين على البينون سنة 1529م يعد بداية تأسيس ما عرف باسم نيابة الجزائر ، ومنذ ذلك التاريخ أصبح ميناء الجزائر عاصمة كبرى للمغرب الأوسط بل ولكل شمال افريقية العثمانية فيما بعد. وبدأ استخدام مصطلح الجزائر للدلالة على إقليم الجزائر حتى نهاية القرن الثامن عشر.
2- الجبهة الداخلية، وكانت تتمثل في محاولة توحيد المغرب الأوسط التي لم تخلو من مؤامرات بني زيان والحفصيين ومن بعض القبائل الصغيرة ولكنه استطاع مد منطقة نفوذه باسم الدولة العثمانية ودخلت الأمارات الصغيرة تحت السيادة العثمانية لكي تحتمي بهذه القوة من الأطماع الصليبية الأسبانية ومن قهرها على اعتناق النصرانية وما لبث أن مد خير الدين النفوذ العثماني إلى بعض المدن الداخلية الهامة مثل القسطنطينية.
لقد نجح خير الدين في وضع دعامات قوية لدولة فتية في الجزائر وكانت المساعدات العثمانية تصله باستمرار من السلطان سليمان القانوني واستطاع خير الدين أن يوجه ضرباته القوية للسواحل الأسبانية وكانت جهوده مثمرة في إنقاذ آلاف المسلمين من أسبانيا ، فقد قام عام 936هـ/1529م بتوجيه ست وثلاثون سفينة خلال سبع رحلات إلى السواحل الأسبانية للدولة العثمانية في الحوض الغربي للبحر المتوسط ، وبفضل الله ثم مساعدات الدولة العثمانية وموارد خزينة الجزائر المتنوعة من ضرائب وسبي ومغانم وزكاة والعشر والجزية والفيء والخراج وما يقوم به الحكام ورؤساء القبائل والعشائر من دفع العوائد وغيرها أصبحت دولة الجزائر لها قاعدة اقتصادية قوية.
لقد تضررت أسبانيا من نجاح خير الدين في الشمال الإفريقي وكانت أسبانيا يتزعمها شارل الخامس إمبراطور الدولة الرومانية المقدسة والتي كانت تضم وقتذاك أسبانيا وبلجيكا وهولندا وألمانيا والنمسا وإيطاليا وكانت الدولة الرومانية المقدسة تدافع عن أوربا المسيحية الخطر العثماني نحو شرق ووسط أوربا ، لذا يمكن القول بأن الصراع بين شارل الخامس وبين ببليربكية والجزائر كان بمثابة فتح جبهة حربية جديدة ضد الدولة العثمانية في الشمال الإفريقي ، لذلك لم يكتف شارل بالهجوم المفاجئ على سواحل الجزائر ، بل أرسل مبعوثاً للتجسس في شمال أفريقيا سنة 940هـ / 1533م وهو الضابط (أوشوا دوسلا) الذي طاف بأنحاء تونس ، وهناك وجد استعداد الحفصيين للتعاون مع شارل الخامس ، وحذر من امتداد النفوذ العثماني على تونس ، وذكر أن هذا الاستيلاء سيسهل على العثمانيين السيطرة على أفريقيا ، ثم يتجهون بعد ذلك لاسترداد الأندلس ، وهذا ما يخشاه العالم المسيحي.
كانت سياسة المملكة الحفصية في تونس تسير نحو انحطاط مستمر ، كان السلطان الحفصي الحسن بن محمد قد أساء السيرة في البلاد وقتل عدداً من أخوته ، فاضطربت الأحوال في تونس وخرج البعض عن طاعة السلطان الحفصي ، وكان أخو الحسن المسمى بالأمير الرشيد قد هرب من أخيه خوفاً من القتل ولجأ عند العرب في البادية ، ثم ذهب إلى خير الدين في الجزائر وطلب منه الحماية والعون ضد أخيه ، فمنحه ذلك خير الدين ، الذي كان مركزاً اهتمامه على تونس بسبب ضعف الحفصيين والخلافات الداخلية التي مزقت الأسرة الحفصية ، كما كان لتونس في نظره أهمية استراتيجية كبيرة لإشرافها على المضيق الصقلي بحيث تسمح له السيطرة عليها في تحديد وقطع المواصلات بين حوضي المتوسط الشرقي والغربي بالإضافة إلى رغبة خير الدين في توحيد بلاد المغرب تحت حكم الدولة العثمانية ليتمكنوا من استرداد الأندلس.
سابعاً : سفر خير الدين إلى استانبول :
عزم السلطان سليمان القانوني بعد أن استولى على بلغراد ، السفر بسائر جنوده إلى أسبانيا للاستيلاء عليها.
وبدا للسلطان سليمان ، أنه لا بد له من رجل يعتمد عليه في دخول تلك البلاد على أن يكون عالماً بأحوالها فوقع اختياره على خير الدين لما يعرفه عنه من شجاعة وإقدام ، وكثرة هجومه على تلك النواحي ، وما فتحه من بلاد العرب في الشمال الإفريقي وكيف أقر الحكم العثماني فيها ، فوجه إليه خطابا يطلبه فيه إلى حضرته ويأمره باستنابة بعض من يأمنه في الجزائر ، وإن لم يجد من يصلح لذلك يبعث إليه السلطان نائباً ، وبعث ذلك الخطاب مع رجل يدعى سنان جاوشي ، فوصل الجزائر ، وأوصل خاطب السلطان إلى خير الدين فقبله ووضعه فوق رأسه ، ولما قرأه وعلم ما فيه نصب ديواناً عظيماً ، وأحضر كافة العلماء والمشايخ وأعيان البلاد ، وقرأ عليهم خطاب السلطان ، الذي وجهه إليهم وأعلمهم أنه لا يمكنه التخلف عن أمره ، وعندما سمع اندريا دوريا زعيم الأسطول النصراني في البحر المتوسط بما عزم السلطان عليه من فتح أسبانيا واستقدام خير الدين من الجزائر لذلك ، أراد أن يشغل خير الدين من سفره إلى حضرة السلطان ، وأشاع بين الأسرى المسيحيين في الجزائر ، عن عزم الحكومة الأسبانية في الهجوم على الجزائر ، وتخليصهم من الأسر ، ففرح الأسرى الأسبان لذلك الخبر وتمردوا على خير الدين ، الذي رأى أن من المصلحة العامة إعدام أولئك الأسرى ليأمن غائلتهم ، ثم قام بتقوية الاستحكامات في الجزائر وزاد من عدد القلاع مظهراً أتم الطاعة للسلطان.
عزم خير الدين على السفر إلى استنابول 940هـ / 1533م ، وعين مكانه حسن آغا الطوشي ، وكان رجلاً عاقلاً وصالحاً ، صاحب علم واسع.
أبحر خير الدين شرقاً في البحر المتوسط وبرفقته أربع وأربعين سفينة وهزم في طريقه فرقة من أسطول آل هابسبرج بالقرب من المورة ، واستمر خير الدين في رحلته ووصل إلى مدينة بيروازن ، وفرح أهالي المدينة لمقدمه وكانوا خائفين من هجوم اندريا دوريا ، الذي ابتعد عندما سمع بمقدم خير الدين ، ثم واصل خير الدين سفره ، ورست مراكبه في قلعة اوارين "انا وارنيه" ، فصادف هنالك أسطولاً للسلطان سليمان القانوني وفرحوا بذلك ، ثم خرجوا جميعاً حتى وصلوا إلى قرون ، ثم كتب خير الدين إلى السلطان يعلمه بوصوله ويستأذنه بالقدوم على حضرته ، فوجه إليه السلطان خطاباً يستحثه بالقدوم عليه ، أقلع خير الدين من قرون ولم يزل مسافراً حتى وصل إلى استانبول ورسا بها ورموا بالمدافع كما هي العادة في ذلك ، ومثل خير الدين بحضرة السلطان ووقف بين يديه ، فأمر بأن يخلع عليه وعلى خواص أصحابه الجرايات الوافرة ، وأنزلهم بقصر من قصوره وفوض إليه النظر في دار الصناعة ، ومنحه لقب قبودان باشا وزير بحرية – حتى تظل له السلطة الكاملة لمساندة النظام في الجزائر لتحقيق هدف الدولة في استعادة الأندلس.
كان الصدر الأعظم في ذلك الوقت بمدينة حلب ، فسمع بقدوم خير الدين على السلطان وقد كانت أنباء وغزواته ونكايته بالمسيحيين تصل إليه ، فاشتاق إلى لقاء خير الدين ، فوجه خطاباً للسلطان يلتمس منه أن يوجه إليه خير الدين لمقابلته فأرسل السلطان إلى خير الدين مخبراً عن رغبة الصدر الأعظم فأجابه خير الدين الموافقة ، وسافر خير الدين متوجهاً إلى حلب ، واحتفل الصدر الأعظم بمقدم خير الدين في حلب وأنزله في بعض القصور المهيبة ، وفي اليوم الثاني من وصول خير الدين ، وصل مبعوث من قبل السلطان ومعه خلعة وأمر بمقتضاه أن خير الدين من وزراء السلطان ، ويلبس الخلعة فنصب الديوان الأعظم وألبسوه خلعة الوزارة واحتفل بها احتفالاً مهيباًَ ، وأكرم إكراماً عظيماً لما قدمه من خدمات للإسلام والمسلمين في حوض البحر المتوسط.
ثم رجع خير الدين إلى استنبول وأكرمه السلطان سليمان غاية الإكرام وشرع خير الدين في النظر في أمر دار الصناعة كما رسم له السلطان.
وبعد أن تم إعداد الأسطول العثماني الجديد خرج خير الدين بربروسا بأسطوله القوي من الدردنيل متجهاً نحو سواحل ايطاليا الجنوبية ، فاستطاع أن يأسر الكثير منها ، وأغار على مدنها وسواحلها ، ثم اتجه نحو جزيرة صقلية ، فاسترجع كورون وليبانتو ، كان السلطان سليمان قد تشاور مع خير الدين بربروسا بأهمية تونس وضرورة دخولها في إطار استراتيجية الدولة العثمانية ، لتحقيق هدفها نحو استرداد الأندلس ، وتأتي أهمية تونس بالنسبة للدولة من حيث موقعها الجغرافي إذ تقع في منتصف الساحل الشمالي لأفريقيا ، وتوسطها بين الجزائر وطرابلس ، ولقربها من إيطاليا التي تعتبر أحد جناحي الإمبراطورية الرومانية المقدسة ، بينما يمثل الجناح الآخر أسبانيا ، علاوة على ذلك مجاورتها لجزيرة مالطة مقر فرسان القديس يوحنا حلفاء الإمبراطور شارل الخامس ، واشد الطوائف المسيحية عداوة المسلمين ثم الإمكانيات الهائلة التي تتيحها موانئ تونس في التحكم في المواصلات البحرية في البحر المتوسط وهكذا تضافرت تلك العوامل على إضفاء الأهمية العسكرية على تونس.
كانت المرحلة الثانية بالنسبة لخير الدين بعد هجومه على السواحل الجنوبية لإيطاليا وجزيرة صقلية هي تونس ، وذلك لتنفيذ خطة الدولة ، والتي تقتضي تطهير شمال إفريقيا من الأسبان كمقدمة لاستعادة الأندلس ، إذ سبق وأن أشار خير الدين بربروسا على السلطان سليمان القانوني في خطابه للسلطان الذي بعثه قبيل استدعاء السلطان له في 940هـ / 1533م ، إذ قال فيه : ( إن هدفي إذا قدر لي شرف الاشتراك هو طرد الأسبان في أقصر وقت من أفريقيا ، ومن الممكن أن تسمع بعد ذلك أن المغاربة قد أغاروا على الأسبان من جديد ليستعيدوا مملكة قرطاجة وأن تونس قد أصبحت تحت سلطانك أنني لا أبغي من وراء ذلك أن أحول بينك وبين توجيه قواتك ناحية المشرق كلا لأن هذا لن يحتاج لكل ما تملك من قوات ولا سيما أن حروبك في آسيا أو أفريقيا تعتمد أكثر ما تعتمد على قوات برية ، أما هذا الجزء الثالث من العالم فإن كل ما أطلبه هو جزء من أسطولك وسيكون ذلك كافياً ، لأن هذا الجزء يجب أن يخضع لسلطانك أيضاً).
وصل الأسطول العثماني تحت قيادة خير الدين إلى السواحل التونسية فعرج على مدينة عنابة ، وتزود ببعض الإمدادات ، ثم تقدم نحو بنزرت ثم اتجه إلى حلق الواد ، إذ تمكن منها بدون صعوبة ، واستقبل خير الدين من قبل الخطباء والعلماء ، وأكرموه وتوجهوا إلى تونس في نفس الوقت وهرب السلطان الحفصي الحسن بن محمد إلى أسبانيا ، ثم عين خير الدين الرشيد أخو الحسن بن محمد على تونس ، وأعلن ضم تونس للأملاك العثمانية ، في وقت بدت فيه سيادة العثمانيين في حوض المتوسط الغربي.
ثامناً : أثر جهاد خير الدين على المغرب الأقصى :
استفاد السلطان أحمد الأعرج السعدي من الجهود التي بذلتها الدولة العثمانية والشعب الجزائري بقيادة خير الدين بربروسا ، فقام بمحاصرة مدينة آسفي بأزمور وذلك سنة 941هـ / 1534هـ ، وكادت المدينة أن تقع بيد السعديين لولا النجدات التي بعثها البرتغاليون للمدينة المحاصرة ، وقد بدا وكأن تعاوناً قد حصل بين العثمانيين والقوى الإسلامية في المغرب ضد المسيحيين ومراكزهم في الشمال الأفريقي وعندما سمع ذلك الملك البرتغالي جان الثالث بوصول الأسطول العثماني في 3 ربيع الأول 941هـ / 13 سبتمبر بقيادة خير الدين بربروسا إلى الشمال الأفريقي ، فكر في الجلاء عن بعض المراكز مثل سبته وطنجة باعتبارها مناطق حيوية للدفاع عن مصالح المسيحيين في غرب البحر المتوسط ، ولصد الهجوم العثماني عن شبه الجزيرة الايبرية ، بعث الملك يوحنا الثالث استفتاء إلى جميع الوجهاء والأعيان والأساقفة في بلاده يستشيرهم في موضوع الجلاء عن بعض مراكز الوجود البرتغالي في جنوبي المغرب ، وكان المطلوب الإجابة على الأسئلة الآتية : هل ينبغي ترك آسفي وأزمور للمغاربة ، هل ينبغي الجلاء عنهما أو عن بعضهما ؟ وإذا كان ينبغي الاحتفاظ بهما هل تحول إلى حصون للتقليل من حجم المصروفات ؟ ثم ما هي الأضرار الناتجة عن ذلك ؟ وكيف نتفاداها ؟
تلقى الملك البرتغالي أجوبة عديدة بين مؤيد في الإبقاء على المناطق الجنوبية في حوزة البرتغاليين وبين معارض ، وكانت أجوبة رجال الدين للملك جان الثالث موحدة تقريباً تضمنت النصح بالتخلي عن المراكز الجنوبية ، يحول الملك كل وسائل الدفاع الموجودة هناك إلى المراكز الشمالية لصد الحظر العثماني بقيادة خير الدين بربروسا فأسقف ينصح بإخلاء سانتا كروز وأسفي وأزمور لأن أهميتها أقل بكثير من النفقات التي تصرف عليها ، ويرى توجيه القوى ضد فاس ، كما ينصح بتحسين وسائل الدفاع عن سبتة خوفاً من هجوم خير الدين عليها.
إن الوجود العثماني في الجزائر أثر على موقف الملك البرتغالي في المغرب إذ تراجع عن القيام بعمليات عسكرية فيه ، كما أدخل استيلاء العثمانيين على تونس الحيرة لدى البابا ، والإمبراطور شارل الخامس الذي اعتبر ذلك تهديداً مباشراً للمسيحية ، ولخطوط مواصلاته البحرية مع أطراف مملكته ، فوصل التهديد العثماني أقصاه فضلاً عن أن الدولة العثمانية ضمنت السيطرة على الممرات الضيقة بين صقلية وأفريقيا.
تاسعاً : استيلاء شارل الخامس على تونس
كان الموقف ملائماً بالنسبة لأسبانيا وذلك للقيام برد عنيف فقد انشغلت الدولة العثمانية بالحرب مع الشيعة الروافض في بلاد فارس ، وطغى على الصراع في أوربا ، ووعد فرنسوا الأول ملك فرنسا شارل الخامس بالحياد ، تردد شارل في اختيار المكان الذي سيوجه إليه ضربته في شمال أفريقيا الجزائر أو تونس ولكن استنجاد السلطان الحفصي الحسن بن محمد والرغبة في عزل استانبول دفع شارل الخامس إلى اختيار تونس للهجوم ، قاد شارل الخامس عملية بحرية شاقة تكونت من ثلاثين ألف مقاتل أسباني وهولندي وألماني ونابولي وصقلي ، على ظهر خمسمائة سفينة ، وركب الإمبراطور البحر من ميناء برشلونة وعندما رست سفنه أمام تونس قامت المعارك العنيفة بين الطرفين ، الأمر الذي أعاد السيطرة الأسبانية على تونس في 942هـ / 1535م إذ لم تكن قوة خير الدين بكافية للرد على ذلك الهجوم ، فكان الجيش الإسلامي تعداده سبعة آلاف جندي عثماني وصلوا مع خير الدين ونحو خمسة آلاف تونسي ، كما تخلف الأعراب عن الجهاد فكانت النتيجة الحتمية أن استولى شارل على معقل حلق الوادي مرسى تونس ، ونصب الأسبان الحسن بن محمد حاكماً عليها ، وعملاً بمنطوق المعاهدة كان الحسن بن محمد سيسلم بونه والمهدية إلى شارل الخامس ، فاستولى على بونة ، وبما أن المهدية كانت في حوزة العثمانيين ، فإن الحسن لم يستطع الوفاء بعهد فاشترط الأسبان عليه أن يكون حليفاً ومساعداً لفرسان القديس يوحنا بطرابلس ، وأن يقوم بمعاداة العثمانيين وأن يتحمل نفقات ألفي أسباني على الأقل يتركون كحامية في قلعة حلق الواد، وعاد شارل الخامس إلى أسبانية، واستقبل استقبال الغزاة الفاتحين في الوقت الذي كان في السلطان يحارب فيه الدولة الصفوية الشيعية الرافضية لبلاد فارس.
عاشراً: عودة خير الدين إلى الجزائر :
عاد خير الدين إلى الجزائر بعد هزيمته في تونس ، واستقر أول الأمر بمدينة قسطنطينية، وهناك أخذ يستعد لاستئناف الجهاد ضد الأسبان في الجبهات التي يحددها ، وكان لزاماً على خير الدين وقد استقر مؤقتا بمدينة الجزائر نظراً لالتزاماته التي تفرضها عليه خطته الجديدة كقبودان باشا للأسطول الإسلامي العثماني أن يشعر شارل الخامس بوجوده ، وأن يرد على ضربة تونس بضربة مثلها فقام بالهجوم على جزر البليار الأسبانية وعلى سواحلها الجنوبية ، فاجتاز مضيق جبل طارق ، وأطلق العنان لنفسه بالانقضاض على السفن الأسبانية والبرتغالية العائدة من الأراضي الأمريكية، والمحملة بالذهب والفضة ، فاهتزت لتلك الأحداث جميع الأوساط المسيحية ، وأقلقت شارل الخامس الذي اعتقد أن خير الدين لن يقوى شأنه بعد حادثة تونس السابقة في 942هـ/1935م ، من ناحية أخرى دخلت الدولة العثمانية في تحالف رسمي مع فرنسا في 943هـ/1536م ، ويعتبر ذلك هو رد الفعل على الهجوم المضاد الذي قام به الأسبان على تونس ، وبدا وكأن الإمبراطورية الرومانية المقدسة قد طوقت من قبل خصومها الفرنسيين والعثمانيين مما أدى إلى استئناف الحروب بينهما من جديد كما صارت أهداف أسبانيا والبرتغال واحدة وذلك في احتلال مراكز في بلاد المغرب بالإضافة إلى خوفهم من تقدم العثمانيين داخل شبه الجزيرة الأيبيرية .
الدبلوماسية البرتغالية وتفتيت وحدة الصف في الشمال الأفريقي :
تلقى الملك أحمد الوطاس هزيمة 943هـ / 1536م من السعديين في موقعة بير عقبة قرب وادي العبيد ، بسبب تخلي قبائل الخلوط التي كادت تكون القوة الأمامية للجيش الوطاسي ، ونشرت الفوضى في سائر الجيش ، وإثر هذه الهزيمة تقرب أحمد الوطاسي من البرتغال وذلك نتيجة شعوره بانشغال العثمانيين في حروبهم ضد الأسبان ووقع معهم معاهدة لمدة أحد عشر عاماً تقضي بوضع المغاربة المقيمين في ضواحي أصيلا وطنجة والقصر الصغير تحت السلطة القضائية لملك فاس ، كما يجوز لرعايا الملك الوطاسي المتاجرة بحرية داخل تلك المناطق باستثناء تجارة الأسلحة والبضائع المحظورة ، وإذا وصلت مراكب عثمانية أو فرنسية أو تابعة لمسيحيين من غير الأسبان ولا البرتغاليين إلى أراضي برتغالية ، محملة بغنائم أخذت من المغاربة فلن يشتري منها شيء ، وكذلك الحال بالنسبة للمغاربة لن يشتروا من العثمانيين ويتم الاستيلاء على الغنائم وترد من طرف لآخر ما لم يسمح قوات العدو في مهاجمتها.
حاول البرتغاليون كذلك عقد هدنة مع السعديين ، فبعثوا وفداً إلى مراكش للتفاوض مع المولى أحمد الأعرج الذي استجاب لذلك ، لأنه كان في حاجة إلى تنظيم أمور دولته الناشئة سيما بعد الانتصارات التي حققها ضد خصومه الوطاسيين في موقعة بير عقبة 943هـ / 1536م ، واتفق البرتغاليون مع السعديين لعقد هدنة بينهما في 25 ذي القعدة 944هـ / 25 ابريل 1537م لمدة ثلاث سنوات ، مع إقامة تبادل تجاري بين رعايا الطرفين كان هدف البرتغاليين من التقرب مع الوطاسيين والسعديين هو الحيلولة دون قيام تعاون حقيقي بين العثمانيين من ناحية والوطاسيين والسعديين من ناحية أخرى ، لأن أي تعاون من هذا القبيل معناه تهديد لمصالح شبه الجزيرة الأيبيرية في المغرب، والأهم من ذلك خوف أسبانيا والبرتغال من تقدم الدولة العثمانية داخل شبه الجزيرة الأيبيرية ، وتحقيق هدفها في استرداد الأندلس.