Admin Admin
عدد المساهمات : 111 تاريخ التسجيل : 09/12/2009 العمر : 56 الموقع : الاسكندرية
| موضوع: قلاع لصد المعتدين الأربعاء ديسمبر 09, 2009 7:00 pm | |
| قامت دولة المماليك في مصر من قلب الحروب والمعارك، فقد ظهرت إلى الوجود فى أعقاب معركة المنصورة التى هزم فيها مماليك السلطان الصالح نجم الدين أيوب جيوش لويس التاسع وأسروه، ومنذ قامت هذه الدولة كان قدر عليها أن تواجه الأخطار الخارجية التي تتعرض لها مصر والمنطقة العربية وتتصدى لها،
فبعد سنوات قليلة من استقرار المماليك فى حكم مصر، اجتاحت جيوش المغول المنطقة قادمة من الشرق، وأسقطت في طريقها بغداد عاصمة دولة الخلافة العباسية، وحتى ذلك الحين لم تستطع قوة على الأرض أن تقف فى وجه المغول الذين انطلقوا من السهوب الآسيوية لغزو العالم المحيط بهم شرقا وجنوبا وغربا، وكان للمماليك فى السنوات الأولى من عصر دولتهم الوليدة شرف وقف تقدم المغول والانتصار عليهم فى معركة عين جالوت سنة 658 هجرية، فثبت بذلك المماليك حكمهم ودولتهم واكتسبوا لها شرعية مستندة إلى القوة العسكرية، والقدرة على حماية البلاد، لم يكن وقف الخطر المغولى على يد السلطان المظفر سيف الدين قطز وقائده ورفيق سلاحه ركن الدين بيبرس البندقدارى نهاية المطاف للأعمال الحربية الناجحة للمماليك، بل كان بدايته؛ فعندما تولى الظاهر ركن الدين بيبرس عرش السلطنة فى سنة 658 هجرية، بدأ يوجه جهوده لتصفية الإمارات الصليبية المتبقية فى الشام، ونجح بيبرس وخلفاؤه من سلاطين أسرة قلاوون، فى القضاء على كل الجيوب الصليبية التى لم ينجح الأيوبيون فى القضاء عليهم، وبذلك أنهى أبطال معركة المنصورة من المماليك وأبناؤهم الوجود الصليبى فى الشرق الذى استمر قرابة قرنين من الزمان.
لكن هل انتهت الحروب الصليبية بذلك؟
الحقيقة أنها لم تنته بذلك، بل بدأت مرحلة جديدة من مراحلها لها خصائصها المختلفة.
لقد نجح سلاطين أسرة قلاوون فى طرد آخر بقايا الوجود الصليبى من الشام، لكن مرحلة جديدة من الحروب الصليبية بدأت عقب ذلك، كانت الحركة الصليبية فى الأساس صراعا سياسيا عسكريا له دوافعه الاقتصادية والاجتماعية فى المجتمع الأوروبى، وكان الدافع الدينى مجرد ستار وشعار لحشد الجماهير الأوروبية خلف حكامها، ومن هنا فلم يكن الهدف هو فلسطين أوبيت المقدس بل منطقة شرق البحر المتوسط أساسا. وإذا كانت الإمارات والممالك الصليبية فى الشرق قد أزيلت تماما فى القرن السابع الهجرى الثالث عشر الميلادى فقد أخذت الهجمات الأوروبية على المنطقة شكلا جديدا؛ لقد أصبحت هذه الهجمات غارات خاطفة على الموانئ والثغور المصرية والشامية، إلى جانب أعمال القرصنة البحرية فى عرض البحر المتوسط، لقد أصبحت الموانئ المصرية خاصة الإسكندرية ودمياط هدفا لغارات متوالية من السفن الأوروبية بعد زوال الممالك الصليبية فى الشرق.
ففى سنة 767هجرية تعرضت الإسكندرية لحملة بقيادة بطرس لوزنيان ملك قبرص نجحت فى الاستيلاء على المدينة بالكامل فى ساعات قليلة، ولم ترحل تلك الحملة إلا عندما استشعر قادتها قدوم جيش المماليك بقيادة الأمير يلبغا الخاصكى واقترابه من المدينة.
واستمر هجوم القراصنة الأوروبيين على الموانئ والثغور فى سواحل دولة المماليك المطلة على البحر المتوسط، انطلاقا من مراكزهم فى جزيرتى قبرص ورودس، وتصاعدت وتيرة تلك الهجمات فى عصر دولة المماليك الجراكسة، وأصبحت غارات القراصنة على الإسكندرية ودمياط والطينة وصيدا وبيروت وطرابلس أحداثا يومية فى حياة تلك المدن، ومن هنا اهتم سلاطين دولة المماليك الجراكسة وأمراؤها بتحصين الثغور والموانئ المصرية والشامية، وبناء الأبراج والقلاع فيها، حماية لها من غارات القراصنة، وكان السلطان الاشرف قايتباى الذى حكم مصر والشام ما بين عامى 872 و901 هجرية هو الأكثر اهتماما بهذا الأمر، وتشهد على ذلك آثاره الباقية إلى الآن، ووثائق أوقافه على المنشآت العسكرية فى عصره، تلك الأوقاف التى كان بعضها من أملاكه الخاصة بينما كان البعض الآخر من أملاك الدولة العامة. ومن أشهر تلك المنشآت العسكرية القلاع والتحصينات التى شيدها وجددها بدمياط ورشيد لحماية المدنيين من الغارات البحرية، وتبقى قلعة قايتباى بالإسكندرية إلى الآن شاهدة على عظمة فن المعمار العسكرى فى ذلك العصر، وعلى مدى اهتمام السلطان قايتباى بحماية ثغور البلاد وموانئها.
ولم يكن السلطان وحده هو الذى يهتم بتشييد القلاع والأبراج والأسوار، بل شاركه فى ذلك كبار الأمراء فى عصره، ومن هؤلاء الأمير (يشبك من مهدى) الدوادار الكبير، الذى كان أحد القادة العسكريين البارزين فى عصر السلطان قايتباى، وقد قام هذا الأمير بعدد من المهام العسكرية داخل البلاد وخارجها، منها الإشراف على إنشاء سلسلة ضخمة من الحديد عند مدخل ميناء دمياط لحمايته من غارات الفرنج، إلا أن أهم الأعمال الحربية للأمير يشبك من مهدى كان قيامه بإنشاء قلعة صغيرة بالإسكندرية مقابلة لقلعة قايتباى، لتتمكن القلعتان معا من توفير الحماية للمدينة، لكن تلك القلعة زالت بفعل الزمن ولم يبق منها إلا بضعة أحجار قليلة، فكيف عرفنا أخبارها؟
الوثائق هى التى دلتنا على هذه القلعة البائدة؛ ففى سنة 1954 عثر باحث مصرى شاب حينذاك على وثيقة وقف فى أرشيف محكمة الأحوال الشخصية بالقاهرة ترجع إلى عصر المماليك، وعندما درسها تبين أنها تخص الأمير مهدى من يشبك الدوادار، واكتشف من نصها أنها تتحدث عن قلعة شيدها الأمير فى طرف لسان السلسلة بالإسكندرية فى مواجهة قلعة قايتباى، وكان الهدف منها هو إحكام السيطرة على ميناء الإسكندرية الشرقى وتوفير الحماية له، وقد نجح الأستاذ الدكتور عبد اللطيف إبراهيم الذى عثر على تلك الوثيقة فى اكتشاف أطلال هذه القلعة وبقاياها فى عام 1958 ونشرت جريدة الأخبار القاهرية أنباء هذا الكشف بعد ذلك بأربع سنوات وقد قدمت وثيقة وقف الأمير يشبك من مهدى الكثير من التفاصيل عن تلك القلعة، فالوثيقة تتضمن الأوقاف التى أوقفها الأمير يشبك من مهدى على مصالح القلعة والأمير يشبك أحد كبار أمراء دولة السلطان قايتباي، أما سر تسميته يشبك من مهدى فيرجع إلى انتسابه للنخاس الذى جلبه، فالمماليك كانوا عادة مجهولى النسب فقد كانوا يخطفون وهم أطفال صغار، وينسبون إما إلى من جلبهم أو إلى أول أمير اشتراهم أو يسمى الأمير فلان بن عبد الله، باعتبار أن كل البشر عباد الله.
ووثائق الوقف على القلاع والأبراج شائعة ومنتشرة فى ذلك العصر، حيث كانت الحاجة تقتضى إنشاء التحصينات العسكرية فى كل ثغور مصر والشام، وكانت الإمكانات المالية للدولة مقتصرة عن الوفاء وحدها بهذه الاحتياجات العسكرية، فبادر بعض السلاطين والأمراء بإنشاء الأبراج والقلاع وتوفير الموارد المالية اللازمة للإنفاق عليها، ويحتفظ أرشيف وزارة الأوقاف بالقاهرة بحجة وقف للسلطان قايتباى يرجع تاريخها إلى أواخر عام 881 هجرية رصد فيها ريع عقارات مختلفة على مصالح بعض المنشآت العسكرية بدمياط، كما تحتفظ المكتبة الظاهرية بدمشق بحجة وقف الأمير جلبان المؤيدى نائب الشام والتى ترجع إلى سنة 845 هجرية وريع العقارات الموقوفة فيها مخصص للإنفاق على البرج الذى أنشأه الأمير جلبان على ساحل مدينة طرابلس الشام.
وتشترك جميع هذه الوثائق فى أنها تقدم لنا معلومات مفصلة عن التنظيمات العسكرية فى ذلك العصر، نتعرف من خلالها على وظائف الأبراج والقلاع ومسميات العاملين فيها واختصاصاتهم ورواتبهم، حيث تذهب تلك الوثائق إلى التحديد الدقيق لما ينفق على كل مقاتل من المقاتلين المقيمين فى تلك القلاع، وعلى ما ينفق على تسليح القلعة وعلى أنواع الأسلحة المختلفة فيها.
وهذا بعض مما جاء فى وثيقة وقف الأمير يشبك من مهدى الدوادار: «يصرف النصف من جميع ما يتحصل من خراج الوقف الصادر فى تاريخه، والربع من جميع ما يتحصل من خراج الأوقاف السابق على تاريخه، فى مصالح البرج السعيد المبارك اللطيف الكائن بظاهر ثغر سكندرية المحروس، المنسوب للواقف المشار إليه أعلاه، المعروف بالبرج الصغير، وبإنشاء مولانا المقام الشريف السلطان المالك الملك الأشرف قايتباى نصره الله تعالى نصرا عزيزا وفتح له فتحا مبينا، ولأرباب الوظائف والمقاتلة أجناد العدة التى ترصد للجهاد فى سبيل الله تعالى، كل ذلك بالبرج المذكور أعلاه وفى عمارته ومرمته وما فيه بقاء عينه ودوام منفعته، فيصرف من ذلك كل شهر يمضى من شهور الأهلة من الفلوس معاملة الديار المصرية الآن عشرون ألف درهم لعشرين نفرا رجالا من أجناد العدة الذين يصلحون للقتال والجهاد فى سبيل الله تعالى يقيمون بالبرج المذكور أعلاه للجهاد والقتال وكف العدو المخذول عن الثغر المذكور وعن المسلمين، وغير ذلك، على عادة أمثالهم فى ذلك، بحيث يكون واحدا منهم زرد كاش برسم أسلحة البرج المذكور وإصلاحها وتعهدها..
ويصرف كل شهر يمضى من شهور الأهلة من الفلوس الموصوفة أعلاه ألفا درهم لأربعة أنفار رجالا نفطية بارودية عارفين برمى المدافع والمنجنيق وغير ذلك من أنواع الرمي، يرصدون بالبرج المذكور للرمى المذكور عند الاحتياج إلى ذلك، وغير ذلك مما جرت عادة البارودية والنفطية بعمله فى مثله... ويصرف كل شهر يمضى من شهور الأهلة من الفلوس الموصوفة أعلاه ألفا درهم لأربعة رجال، أثنين منهم يكونان رقيبين بطبلين واثنان منهم يكونان أنيسين، يقيمون بالبرج المذكور لإرهاب العدو المخذول، ولأعلام الناس والمقاتلة إذا ورد العدو المخذول بالورود عليهم ليستعدوا لقتالهم على العادة».
| |
|